في الشهر الماضي، ذكرني تطبيق انستجرام بصور رحلتي الأخيرة لباريس في نوفمبر٢٠١٩ والذي بدوره عاد بي لمشاعر ومواقف تلك السفرة وجعلني أتساءل هل أصبحنا نعتمد على الذاكرة الافتراضية في أحب الذكريات إلينا أيضا؟ وهل كنت سأتذكر رحلتي هذه بذاك اليوم تحديدا لولا التنبيه الرقمي؟
علي كل حال، كتبت هذه التدوينة لتخليد الذكرى بطريقة أفضلها أكثر.. بالكتابة . لأستعيد شعوري اللحظي عندما زرت أهم محطات تلك الرحلة للمرة الأولى، المحطة التي بها هام قلبي ودعوت المولى بأن يمنحني عمرا مديدا لأعود وأُترف روحي بتلك المشاعر مرة بعد مرة.
المحطة البراقة التي لمست تاريخها المعتق بالأدب والثقافة والدهشة من الوهلة الأولى، ترجلت من سيارة الأجرة وتأملت ملامح المكتبة التي رسمتها في خيالي طويلا قبل أن أحظى بشرف زيارتها. المكتبة التي تحمل اسم الشاعر الملحمي الإنجليزي الأشهر ويتزين بابها بصورته. مكتبة شكسبير اند كو التي يعود أصل تسميتها إلى مكتبة أسست في عام ١٩١٩ على يد الكاتبة الأمريكية سيلفيا بيتش ولكنها أغلقت بعد ٢٠ سنة تقريبا بسبب الاحتلال الألماني لباريس.

وفي عام ١٩٥١، افتتحت مكتبة لو ميسترال على يد مؤسسها الأمريكي جورج ويتمان وقرر إعادة تسمية المكتبة بشكسبير اند كو إحياء لذكرى سيلفيا – سميت ابنته التي تدير المكتبة اليوم تيمننا بها أيضا- وتخليدا لذكرى ميلاد شكبيسر ال٤٠٠.

تجذبك واجهة المكتبة بدون أي جهد يذكر، تندفع إليها مرغما ومغرما بسبب كثافة تفاصيلها الأنيقة، فيتسلل دفء المكتبة إليك من خلال اللون الأخضر الذي يطغى على واجهتها وتشعر بفخامة المكان -رغم بساطته- بسبب اللون الذهبي المدموج بذكاء مع الأخضر.
أما على جانب المدخل، فرأيت طاولة شطرنج تتوسط رجلان منهمكان في التركيز واللعب.. وهو ما أعطى المكان حياة فوق الحياة التي تنبثق منها.

باللحظة التي وقفت بها على عتبة باب المكتبة، شعرت بأنني على بعد خطوة واحدة من باب سحري يسمح للخيال بالتوغل لعالمي.
الجدير بالذكر بأن عظمة هذه المكتبة لا تتمثل فقط بتوفير الكتب القيمة وذات النسخ النادرة، لكنها أيضًا عدت مركزًا ثقافيًا للعديد من الكتاب والشعراء المعروفين حتى أن هنري ميلر أطلق عليها لقب “أرض الكتب العجيبة”.
بالإضافة إلى ذلك، قدمت المكتبة دعمًا لا مثيل له للكتاب اليافعين الذين أقبلوا على باريس بحثًا عن الجمال والإلهام ولم يتمكنوا من تحمل مصاريف السكن، فآوتهم ومنحتهم تجربة لا تضاهى وهي النوم بين رفوف الكتب مقابل أن يقوموا ببعض الأعمال كالمساعدة في التنظيف والترتيب وبيع الكتب. وبحسب موقع المكتبة، يقدر عدد الكتاب الذين أقاموا بالمكتبة أكثر من ٣٠ ألف شخص ويطلق عليهم لقب Tumbleweeds.
عيناي تحاولان القبض على كل التفاصيل وأنا أتجول بين رفوفها لأن التصوير ممنوع بداخل المكتبة، وفجأة خطرت ببالي فكرة، ماذا لو زار شكسبير المكتبة، كيف سيصفها؟ وهل كان سيتباهى بأن مكتبة كهذه سميت على اسمه أم أنه سيقرر الإقامة بها ليكتب مسرحيته العبقرية القادمة؟ تخيلته يصفها في قرارة نفسه: “هل لي أن أقارنك بيومٍ من أيام الصيف؟ أنت أكثر روعة منه وأكثر اعتدالًا فرياح الصيف تهزُّ براعم مايو في عنف ويوم الصيف في معظمه سريع الزوال فشمس الصيف أحيانًا تلفحنا بلهيبٍ من نار وتحيل جبهته الذهبية إلى لون كئيب وكل جمالٍ يطغَى عليه جمال يختفى وينهار بالصدفة وبفعل الأيام الرتيبة يأتي المشيب، لكنَّ جمال صيفكِ الأزلي لنْ يطويه الفَناء ولن يضيعَ ما وهبكِ الله من سحر الكمال ” الله، سحر الكمال!
بعد انتهاء جولتي المطولة واختيار بعض الكتب من الطابق الأرضي المليء بالنمط البوهيمي، صعدت درجا شبه حلزوني مزين بمقولة الشاعر الصوفي حافظ الشيرازي: “أتمنى لو أنه بمقدوري أن أعرفك على ضوئك المذهل عندما يظلم عالمك وتصبح وحيدًا.”
وكأن هذه الكلمات هي مفتاح الطابق العلوي الذي يمهدك للتعرف على ضوء المكتبة المبهج فتشعر بدفء ذكريات الكتاب والقراء وجميع زوارها الذين تركوا رسالة أو ذكرى ما على لوح خشبي كبير يتوسط رفان من الكتب، وستجد أول سرير للمكتبة تحته وفكرت مطولا بشعور الأشخاص الذين قضوا لياليهم يستمتعون بكلمات الغرباء إن راودهم الأرق.
بنظرات خاطفة حاولت التعرف على صور بعض الكتاب المعلقة وإن اسعفتني ذاكرتي أذكر وجود سيلفيا بلاث وفيرجينا وولف بين صور عديدة لأدباء تركوا لنا قصصا عظيمة وخيالا أعظم.
لعل أهم ما يميز هذا الطابق هو وجود عدة أسرة متفرقة بالإضافة إلى بيانو، كما تعرفت على آغاثا، قطة المكتبة اللطيفة وعلى ما يبدو بأنها معتادة على وجود القراء والزوار فكانت هادئة في تحركاتها وحريصة في خطواتها.
وأنا في طريقي لمغادرة الطابق لمحت على جانبي الأيمن المقولة التالية: “أكرموا الغرباء فقد يكون بينهم ملائكة و أنتم لا تدرون” وشدني بأن المكتبة لم تضع هذه الكلمات عبثًا وإنما هي فعلا روح المكتبة وما تطبقه كل يوم.. تكرم الغرباء وتثق بهم.

بقلب مكتمل، غادرت المكتبة بكتب ختم عليها شعار المكتبة وأخذت قهوة لذيذة من مقهى المكتبة الملاصق لها وأمضيت بقية يومي في مدينة النور بسعادة غامرة وإيمان بأنني وجدت قطعة مني.. هنا.

ملاحظة: خلال تصفحي لموقع المكتبة بهذه الأيام، علمت بأنهم وكحال العديد من الأعمال حول العالم، تأثروا اقتصاديا بالجائحة ولفتني بأنهم بدأوا برنامج عضوية لطيف اطلقوا عليه اسم أصدقاء شكسبير اند كو تبدأ قيمته من ٤٥ يورو لدعم المكتبة خلال عام ٢٠٢١ وتبدأ العضوية من شهر يناير. على حسب كلامهم بالموقع: “بجانب امتنانا، سنقوم بإرسال محتوى حصري من المكتبة ٤ مرات خلال السنة لبريدكم الإلكتروني، كما توجد عضوية ذات سعر أعلى تحتوي على فرصة الانضمام لنادي قرائي إلكتروني بالإضافة إلى كتاب ورقي موقع.”
لمزيد من المعلومات: